الإنسان كائن تواصلي أم حيوان ناطق؟ في أصل اللغة والتاريخ الطبيعي للاتصال


الإنسان والرمز- زكي نجيب محمود - مدارات ثقافية

لا سبيل لعلم الاتصال لتجاهل موضوع اللغة وما يتفرع عنه من موضوعات نشأة اللغة وأصلها وموقعها في نظم الاتصال الإنساني.

هناك اهتمام بالنظر في توظيف علم البيولوجيا لمعرفة هل كان الإنسان كائناً تواصلياً قبل أن يكون حيواناً ناطقاً؟ وأي المقولتين أسبق؟ 
للإجابة نحتاج لتعريف "البايولوجيا biology" أو علم الأحياء وعلاقته بسياقات اللغة وعلوم و فلسفة الاتصال.
في تعريفه البيولوجيا يقول صاحب كتاب "قصة البايولوجيا" أنها مصطلح يدل على علم الحياة، وقد اطلق عليه سابقا "التاريخ الطبيعي" وأحيانا "اللاهوت الطبيعي" و" هنالك من الفلاسفة، أو المشتغلين بالفلسفة، من وظف البيولوجيا في مشروعه الفكري. وفى المقابل، هنالك من البيولوجيين من وظف الفلسفة في مشروعه العلمي.. وأغلب هؤلاء البيولوجيين المتفلسفين انطلق من دراسة التطور، باعتباره المفهوم الحاكم في البيولوجيا، ومن هؤلاء البيولوجيين الفلاسفة عالم سلوك الحيوان ريتشارد دوكنز  Clinton Richard Dawkins)‏ الشهير بإلحاده وماديته المتطرفة الذي قدم فكرة عن  «الجين الأناني»،  يرى فيها الكائن وسيلة يتخذها برنامجه  الوراثي لإنتاج برنامج وراثي أخر.

الجين الأناني :

والجين  في تصور دوكنز أناني يوظف كل الكائنات لإنتاج جينات أخرى، ومع فكرة الجين الأناني يقدم فكرة "الميمات"، أو وحدات  التوارث الثقافي فالإنسان، بحسب تصوره، هو الكائن الوحيد الذى  له نظامان وراثيان متميزان:

  1.  النظام البيولوجي: الذى يشترك فيه  مع كل الكائنات،  ووحدة التوارث البيولوجى هي الجين gene  (وهى مشتقة من لفظ يوناني يعنى الصيرورة). 
  2. النظام الثقافي: الذى ينقل حبرات الأجيال السابقة المكتسبة إلى الأجيال اللاحقة، محدثا ما نشهده من  تطور ثقافي متراكم. وحدة هذا التوارث، الذى يشمل الأفكار والمعتقدات وأساليب الحياة وتنظيمها، هى الميم meme (وهي مشتقة أيضا من لفظ إغريقى يعنى المحاكاة»، (تطفر) وتنتقل وتنتشر هذه الميمات وتتغير من جيل لآخر بالتواصل الإنسانى[1] ولا يبدو ذلك التصور المادي للثقافة مستقلا عن رؤية دوكنز الإلحادية للعالم.
وخطورة اللغة راجعة لكونها أحد عوامل التنوع والاختلاف الذي يسم الحياة الإنسانية "فالتنوع الثقافي Multiculturalism   في القديم والحديث بين الشعوب والأمم والقبائل والمجموعات الصغيرة هو في المقام الأول نتيجة للاختلاف بينها في اللغات "[2]

مهارات الاتصال اللغوي:

وتعتبر مهارات التعبير والقراءة هي المهارات الأساسية للتواصل وقد يكون التعبير حركياً، وقد يكون منطوقاً، حيث يتم وضع الأفكار والمعاني المراد إرسالها في شكل رموز مرقونة أو منطوقة وهي مهارة ضرورية للقائم بالاتصال (المتصل), وتقابلها في الاتجاه الآخر مهارة القراءة أو فك الرموز وإكساب تلك الإشارات أو الحركات أو الحروف أو الأصوات معناها, حيث يتم قراءتها واستقبالها كـأفكار أو معاني وتخضع عملية (لتعبير، الصياغة: الترميز) وعملية (القراءة، التلقي: فك الترميز ) لنظام شامل تعمل من خلاله، نظام له ضوابطه وقواعده وقوانينه الخاصة و يعرف هذا النظام في حالة الاتصال اللفظي أو الكتابي باللغة، أما عمليات التواصل الرمزي غير اللغوي فلها نظمها الدلالية الخاصة ايضاً. 

الموسيقى والصوتيات:

الموسيقى كلغة لا يمكن اغفالها مثلها والصوت الانساني وهو ممزوج مع المحتوى ما يحدث التأثير والإقناع بفحوى الرسالة. وبما أن كل برنامج ومنتج اذاعي مفرداته وهي في الغالب: 

الموسيقى 

المؤثرات الصوتية 

فترات الصمت

يقول علماء اللغة أن من مزايا العربية أنها لغة موسيقية.

وتظهر النقاط السابقة مدى العلاقة الرابطة بين ظهور الاتصال الإنساني وطبيعته وقضية أصل الإنسان، ولا سبيل لمعالجة موضوع البداية دون الوقوف على رؤيتين عالجتاه بعمق أولها لعالم الطبيعة الإنجليزي تشارلز دارون والثانية لفيلسوف العمران العربي وصاحب المقدمة الشهيرة عبد الرحمن ابن خلدون.

صحيح أن تركيزهما كان على أصل الكائن البشري نفسه، والذي يتفرع عنه موضوع أصل اللغة لذلك لا نستغرب إحالة بعض منظري الاتصال  إلى تشارلز دارون[3] وكتابه في أصل الأنواع ثم وبعد أن استقرأ في رحلة طويلة معالم الحياة الطبيعية على ظهر الأرض أصدر كتابه ( تسلسل الإنسان ) سنة1871م ،وفي كلا العملين رسم ملامح الإنسان كما بدا له في السياق الكلي لمنظومة الكائنات الحية على ظهر الأرض. عن طريق شرح القوانين الأربعة التي يرى أن الأحياء جميعها خاضعة لها وهي:

1-            قانون تنازع البقاء.

2-            قانون "تباينات الأفراد".

3-            قانون "تباينات بالإرث".

4-            قانون "الانتخاب الطبيعي".

ووقد انقسم من أرخوا لدارون قسم رأى أنه كان يؤمن بأن الخلق جميعا نشأ من أصل واحد، وأراد – من خلال نظرية النشوء والارتقاء- أن يقدم تفسيراً علمياً للقانون الذي أنشأ الله به الخلق. وقسم من الماديين كتبوا عن دارون مؤكدؤين أنه كان يؤمن بالمادية وأن نظريته جاءت في أصلها مؤسسة على المقولات الأساسية للفكر المادي، ومع تتابع النقد لم تفقد النظرية أهميتها التاريخية وظلت تلعب دوراً محورياً في تطور الفكر الإنساني المعاصر، وما يدفعنا إلى الاهتمام بها في هذا المقام هو انعكاساتها الجلية على عملية التأصيل النظري في بحوث الاتصال المعاصرة.

لقد وجد التفسير العلمي الداروني نفسه في مواجهة مع نظرية الخلق والعقيدة الإيمانية التي يؤسس لها الكتاب المقدس، ومع أن ابن خلدون -خلال محاولته تفسير حقيقة النبوَّة –عرض تصوراً لسلم الترقي –شبيه برؤيا دارون-حيث تنتظم المخلوقات في تراتب رأسي يشبه إلى حد كبير التعيين الدارويني لأسلاف (الكائن البشري)، ومع ذلك لم يصادف مثل هذا النوع من عدم التفهم, ولم يتم على أي نحو من الأنحاء تفسير موقفه ومقولاته باعتبارها (تجديفا) بالمفهوم اللاهوتي أو تعبير عن رؤية إلحادية بالمفهوم الفلسفي، على عكس ما حدث مع دارون الذي أنكر عليه أعظم المحتفين به اعترافه أن الحياة وجدت في الأصل بقدرة الخالق، فاتهموه بأنه يمالئ رجال الدين، ويترضاهم ؛ وتظل هناك الكثير من الجوانب الهامة في التجربة الاتصالية للإنسان لا يمكن إثبات وجودها أو تفسير طبيعتها إلا باستصحاب ما تطرحه الأصول الدينية من تساؤلات أو تحويه من معارف.

ولعلها المناسبة التي نعبر فيها عن الدهشة لملاحظة ما يبديه بعض من أرخوا لأهم الأحداث الاتصالية في التاريخ من اهتمام بالميثولوجيا اليونانية وإغفال لأي إشارة إلى ظهور الكتب الثلاثة الأهم في التاريخ البشري (التوراة والإنجيل والقرآن) والتي لا تزال تمثل إطاراً إلهامياً ونظاماً للحياة لمعظم أعضاء المجتمع الإنساني، الآن يتسع الأفق لاستقبال أي مقاربة.

يؤسس ابن خلدون نظرته على مبدأ الخلق كبدهية علمية ومسلمة عقدية ويقول في معرض شرحه لمبدأ الاصطفاء والنبوة " إعلم أرشدنا الله وإياك أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسببات و اتصال الأكوان بالأكوان و استحالة بعض الموجودات إلى بعض لا تنقضي عجائبه في ذلك و لا تنتهي غاياته و أبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني و أولاً عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعداً من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلاً بعضها ببعض و كل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعداً و هابطاً و يستحيل بعض الأوقات و الصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك ... ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش و ما لا بذر له وآخر أفق النبات مثل النخل و الكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف و لم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط و معنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده و اتسع عالم الحيوان و تعددت أنواعه و انتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر و الروية ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس و الإدراك و لم ينته إلى الروية و الفكر بالفعل و كان ذلك  أول أفق من الإنسان بعده و هذا غاية شهودنا , ثم إنا نجد في العوالم على اختلافها آثاراً متنوعةً , ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك و العناصر و في عالم التكوين آثار من حركة النمو و الإدراك تشهد كلها بأن لها مؤثراً مبايناً للأجسام فهو روحاني و يتصل بالمكونات لوجود اتصال هذا العالم في و جودها و لذلك هو النفس المدركة و المحركة و لابد فوقها من وجود آخر يعطيها قوى الإدراك و الحركة و يتصل بها أيضاً و يكون ذاته إدراكا صرفاً و تعقلاً محضاً و هو عالم الملائكة فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية ليصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات في لمحة من اللمحات و ذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانية بالفعل كما نذكره بعد و يكون لها اتصال بالأفق الذي بعدها شأن الموجودات المرتبة كما قدمناه"[4].



[1]شوقى، أحمد:قصة البيولوجيا : تحليل ثقافى لعلم الحياة، المكتبة الاكاديمية،(القاهرة 2008) ص24-25

[2] -Kivisto P (2002 ) Multiculturalism in A Global Society , Oxford , Blackwell Publishing

[3] تشارلز روبرت داروين) ولد سنة 1809م، وتوفي سنة 1882م. وكما تقول الموسوعة العربية الميسرة: هو عالم طبيعي إنجليزي درس الطب بأدنبرة... ثم تخصص في التاريخ الطبيعي، وقد وضع دارون في كتابه (أصل الأنواع) 1859م. أسس نظريته والدلائل عليها بطريقة فذة رائعة، كما وضع نظريته عن أصل الشعاب المرجانية، وقد قبلها الكثيرون. ومن أعماله الأخرى: (أصل الإنسان والانتخاب بالنسبة للجنس )سنة 1871م، و (تنوع النباتات والحيوانات تحت الاستئناس سنة 1867م) انتهى.

[4] أنظر: ابن خلدون، المقدمة  الجزء الأول (تفسير حقيقة النبوة) كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن ... طبعة مزیدة ومنقحة ... بيروت : دار الكتاب اللبناني.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التواصل المعرفي والاتصال الثقافي في حياة مالك بدري 1932-2021م

‮‭ ‮طه عبد الرحمن والأخلاق الإسلامية في مجال الإعلام والاتصال د.هشام المكي‬‎

سنوات العولمة: قوة الهويات وتفكيك المركزيات