الضمني والصريح في تاريخ الاتصال الانساني

 الضمني والصريح في تاريخ الاتصال الانساني 

Otwarty dostęp w nauce – rozwiewamy mity!
Prof. Emanuel Kulczycki 


لا يحتبس تاريخ الاتصال فيما يجب أن يكون عليه التواصل بل يحكي عن تطورات ومجريات الواقع التواصلي، ويفترض أن طبيعة وماهية التفاعل البشري وكيفية تواصل المجتمعات وما تستخدمه في تحقيق ذلك من نظم وأدوات هو في المقام الأول نتيجة لحالة ثقافية معينة..

وتسوقنا الحاجة إلى النظرية الاتصالية للبحث والتنقيب في التاريخ ضمن محاولات تحديد من أين يمكن أن تبدأ دراسة الفكر الاتصالي. وما هي ملامح التاريخ الضمني والصريح للاتصال وعلومه عموما، والتنقيب عن الجذور الفلسفية للفكر الاتصالي في الأنساق المعرفية المختلفة  خصوصاً تاريخ يوتوبيا الاتصال.


يدرس مبحث "تاريخ الاتصال" القضايا المتعلقة بالاتصال، سواء كانت شخصية أو جماعية أو تنظيمية أو مؤسسية وهو كما يقول مؤسسوه[1] لا يدرس ما يجب أن يكون عليه التواصل، ولا كيف يجب أن نتواصل. إنه فهم للاتصال يسمح بمناقشة تاريخ الاتصال، يفترض أن ماهية الاتصال وكيف تتواصل المجتمعات التاريخية وما كانت تستخدمه للتواصل، هو في المقام الأول نتيجة لحالة ثقافة معينة. وعلى النقيض من نماذج الإرسال التي تركز على تحليل العناصر المتزامنة (القناة، المرسل، المرسل، إلخ.)، يتم التركيز هنا على الأجهزة الثقافية للمتصلين." ويساهم إلى جانب ذلك في صياغة المشهد العالم للفكر الاتصالي. لقد برز الاتصال في الفلسفة اليونانية في حوارات سقراط مع السفسطائيين وتأسيسات أفلاطون وتوثيقاته لتلك الحوارات محاولاً استخلاص مضمونها الفلسفي والقيمي والذي جاء أرسطو لينسج منه أحد أهم وأقدم النظريات الاتصالية. أما الفلسفة الإسلامية التي وصلتنا بما سبق من فلسفة اليونان وظهر تأثرها بها في النسق الذي رسمه الفارابي للاتصال بين سكان المدينة الفاضلة، والذي ابتدعه ابن رشد لمواضع الاتصال بين العلوم والمعارف.

الضمني والصريح:

ومع أن نموذج شانون وويفر يعد المقاربة النظرية الابتدائية لما أصبح يعرف بعلم الاتصال فالتطور المنهجي للفكر الاتصالي في نظر من أرخوا لدراسات الاتصال بدأت وصفية واتجهت من بعد للاستعارة من مناهج العلوم السلوكية ومن ثم وظفت منهجيات الإحصاء والتجريب وأخذت تكتسب في أثناء حقب تطورها المختلفة مناهجها الخاصة تقول جيهان أحمد رشتي  في تحليلها القيم للتجربة فس الولايات المتحدة الأمريكية [2]"أن أبحاث الاتصال الأولى بدأت وصفية واعتمد الباحثون فيها على الحدس والتخمين. ثم بدأت الأبحاث الإعلامية تطبق مناهج العلوم السلوكية في البحث، وتستخدم الإحصاءات والرياضيات، وتحولت عملية القياس والمعرفة إلى علم نتيجة لاستخدام العينات والأبحاث الميدانية والتجربة المعملية، وتمیزت الخمسينيات باتساع مجال الابحاث الاعلامية وامتدادها ليشمل وسائل إعلام جديدة. كذلك تميزت باهتمام علماء من مجالات متنوعة بالاتصال مثل علماء السياسة والاجتماع وعلم النفس، ولم يعد اهتمام الأبحاث الإعلامية مقصورا على الدراسات الصحفية بل اتسع اهتمام الدارسين ليشمل كل أساليب الاتصال؛ كذلك أصبح الباحثون ينظرون إلى الاتصال على أساس أنه عملية. وخلال هذه الفترة كان الهدف من البحث تکوین نظريات على أساس علمي وتجريبي، والذي نريد أن نؤكده في هذا المجال أنه حل محل الأبحاث التاريخية والقانونية والادارية الأولى، أبحاث تركز على تأثير وسائل الاعلام، وكيف تقوم وسائل الإعلام بعملها، كما تركز على (عملية الاتصال وكما هو معروف، فان هذا النوع من الأبحاث له طبيعة كمية وليست کيفية أو وصفية أو تاريخية.

ولكن لا يجب أن ننسى أن تطور الأبحاث الإعلامية من المرحلة الكيفية إلى المرحلة الكمية خلال الخمسين عاما الماضية، لم يقف على الأبحاث الوصفية. فكلما تقدمت الأبحاث الكمية ازدادت الحاجة إلى التغير الكيفي لتلك الأبحاث. كذلك ازدادت الحاجة إلى الدراسات التاريخية ودراسة الدعاية، ووصف نظم الاتصال في الدول الأخرى، وغير ذلك من المجالات التي تحتاج إلى دراسات وصفية. ولقد أصبح المجال الذي يركز على الاتصال الدولي (خاصة في الدول النامية) شديد الحيوية. وقد أجريت في السنوات الماضية كثير من الدراسات التي تهدف إلى معرفة كيف يمكن التأثير على عقول البشر وکسب صداقات الأمم. ولكن مازال الباحثون في حاجة إلى معرفة نظم الاتصال في مختلف الدول. ويتطلب ذلك معلومات لها طبيعة وصفية أكثر ولكن في مضمون يسمح بالمقارنة وفهم أهمية الاختلافات بين الأنظمة المختلفة.

وقد حاول کتاب «نظریات الإعلام الأربع، الذي صدر سنة 1951 أن يصنف تحت أربع نظريات أغلب نظم الاتصال الموجودة في العالم. وتناول هذا الكتاب بالشرح، الأساليب التي تعمل بمقتضاها وسائل الإعلام في مختلف الأنظمة السياسية. كذلك قدم الباحثون دراسة مماثلة تركز على تأثير التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي على الإعلام، وتأثير الإعلام على تلك المجالات (دراسات نیکسون وشرام ولوشیان بای). ولا شك أن مثل تلك الدراسات تقدم للدارسين خدمة جليلة، فالتعليم، والدخل القومي، وتوزيع الثروة، والاستقرار السياسي والاقامة في المدن، وغير ذلك من المتغيرات، لها صلة مباشرة بشكل أو بآخر على طبيعة نظم الإعلام التي تظهر في كل دولة. لهذا نحن في حاجة الى دراسات وصفية تهتم بتأثير تلك المتغيرات على مختلف الانظمة الاعلامية. ولسوف تساعد مثل هذه الدراسات دون شك، على تكوين نظرية عامة للاتصال نحن في أشد الحاجة إليها. والملاحظ أن الدول الأوروبية بدأت في الخمس سنوات الأخيرة تكرس اهتماما أكبر للأبحاث الإعلامية. وقد انعكس ذلك في الدوريات التي صدرت في تلك الدول [3]" كان ذلك تقريراً لجيهان رشتي في سبعينيات القرن الماضي وهي تلخص المسار التطوري لبحوث الإعلام ودراسات الاتصال.

ويقدم إيمانويل كولزيزكي[4] تصوراً مختلفاً لتاريخ الاتصال حيث يقول "أن النهج الناظر إلى تاريخ الاتصال باعتباره جزءً من دراسات الاتصال، أو بشكل أكثر دقة تخصصا فرعياً فيها، قد يؤدي هذا النهج من (التاريخ الذي لم يكتبه المؤرخون ولكن كتب بواسطة علماء الاتصال أو باحثي الاتصالات) إلى العديد من المشاكل والتوترات وعدم الدقة. ومع ذلك، يمكن للمناقشة بين تخصصات - الاتصال والتاريخ - أن تكون مثمرة لكلا الطرفين. لأنه اتضح أن العديد من المشاكل بين كليهما مشتركة، وأن وجهات نظر جديدة تؤدي إلى حلول جديدة".

في مقالته تلك قسم كولزيزيكي تاريخ الاتصال إلى ضمني وصريح قائلاً:  أفترض أنه في حالة إعادة بناء البحث في تاريخ الاتصالات، من الممكن التمييز بين فترتين:

1-            تاريخ الاتصالات الصريح.

2-            التاريخ الضمني (ما قبل تاريخ الاتصالات).

حيث يشير التاريخ الصريح إلى الفترة المبتدئة مع نهاية القرن التاسع عشر، عندما ظهر الفهم الحديث للتواصل، ووصل إلى ذروته منتصف القرن العشرين مع صياغة النظريات الأولى للاتصال (على سبيل المثال نظرية كلود شانون الرياضية للتواصل أو النظريات التي طورتها مدرسة شيكاغو).

أما التاريخ الضمني والذي يمكن ان يسمى فترة ما قبل تاريخ الاتصالات فيعني الدراسة التاريخية لتطور ما يسميه العلماء المعاصرون بالاتصال. وفي إطار تاريخ التواصل يفهم بهذا المعنى، كتابات علماء العصور الوسطى عن تطور ممارسة الخطابة في اليونان القديمة. مع تضمين تقريرات أرسطو حول الخطابة.

ويجادل كولزيزيكي كاشفاً وجها آخر من التاريخ الضمني، قائلاً أنه وعلى غرار كيفية البحث في "بالو ألتو" تقوم المدرسة الحديثة على فهم الاتصال بشرح أبحاث أوغسطين حول مفهوم الإشارات وتواصل الإنسان مع الله هذا التواصل الذي لا يحتوي على عنصر الاتصال. إنه مرئي لنا فقط في إطار التاريخ الناشئ للتواصل، حيث يمكن للتحليلات السيميائية لعلم اللاهوت في العصور الوسطى أن تساعدنا على فهم التحليلات الحديثة لممارسات الاتصال. إشارة إلى زيادة الاهتمام بالبلاغة والسيميائية[5].

أنه صحيح، بالطبع، أنه تمت دراسة الممارسات البلاغية منذ العصور القديمة. ولكن يرى كولزيزيكي أن التقليد البلاغي تم تكييفه من قبل علماء الاتصال (وبالتالي بدأ التركيز بشكل أكبر على الجانب التاريخي للتواصل، كما يتضح من ممارسة الاتصال. وهذا يعني أن ظهور الاتصالات المعاصرة تكشف التاريخ على مسارين: من ناحية، بدءًا من التاريخ الوسيط، والمضي قدما من خلال تاريخ وسائل الإعلام وتاريخ نظرية الاتصال.


ومن ناحية أخرى، من خلال دمج التقليد القديم للبلاغة والسيميائية من الممكن أيضاً التحقق من مكونات خارطة هذا الفكر لا في جدلياته الموثقة أدبياً أو حوارياته المتلفزة؛ بل من خلال المستوى التواصلي المتناقل عبر جميع الوسائط. فالنسوية والجنسانية طافحة في محتوى قنوات الموسيقى والأفلام، وما بعد الحداثة حاضره من ديكور الاستديو الى خطوط الموضة وأنواع الإضاءة والتبرج في وجوه مقدمي نشرات الأخبار، وبالتالي لم يعد مستغرباً أن نجد صورة ثيودور ادورنو تتكرر بين كتاباته الفلسفية وتغطياته الصحفية ومقالاته النقدية وأفلامه السينمائية.


[1]  يعتبر إيمانويل كولزيزيكي من من أوائل من تعاملوا مع تاريخ الاتصال كمبحث مستقل من بين مباحث الاتصال، وهو ما يوضحه في مقاله الهام في "تاريخ الاتصال" والذي جاء بعنوان (Communication History and Its Research Subject) المشار إليه في نهاية هذا المدخل.

[2] رشتي، جيهان أحمد: مرجع سابق (1978م) ص40-41

  [3] رشتي، جيهان أحمد: المرجع السابق، ص41

[4] Kulczycki, Emanuel. (2014). Communication History and Its Research Subject, "Analele Universitatii din Craiova, Seria Filosofie", Vol. 33 (1/2014), p 136

[5]  Kulczycki, Emanuel. (2014). p 139

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التواصل المعرفي والاتصال الثقافي في حياة مالك بدري 1932-2021م

‮‭ ‮طه عبد الرحمن والأخلاق الإسلامية في مجال الإعلام والاتصال د.هشام المكي‬‎

سنوات العولمة: قوة الهويات وتفكيك المركزيات